نحن الآن... وثيقة تاريخيّة | أرشيف

سميح القاسم (1939 - 2014)

 

المصدر: «مجلّة الناقد».

الكاتب (ة): سميح القاسم.

زمن النشر: 1 كانون الأوّل (ديسمبر) 1990.

 


 

نحن الآن معي، هنا في داخلي. هنا في المصعد المعطوب بين دورين لا ثالث لهما، أباريق وطاسات نحاسيّة على الشرفات، وضوء غير مكتمل أبدًا، ونساء عاريات، عاريات في المقابر العسكريّة الخاوية.

نحن الآن معي، هنا في داخلي. فلّاحون يحرثون قنوات التلفزيون ويسقون بدموعهم أشتال الفيديو. عمّال أرقون، أرقّاء بلا عَتْق. كتب عتيقة. أجهزة إعلام مواخير. هيئات تخطيط قوميّة، بملاعق الخشب إيّاها، بقصعات الفخّار إيّاها، بالليل المحيط – الأوقيانوس، نحن الآن.

نحن الآن معي، هنا في داخلي. زبد، نراجيل، سيّارات أجرة قذرة، مصابيع عموميّة نسيها طاقم البلديّة لذاكرة العسَسْ، موانئ تتذكّر وتبكي. تتذكّر وتضحك، تتذكّر وتصمت إلى الأبد. نحن الآن.

هنا. لا نحن. لا آن. لا هنا. سيّاح يتورّطون مرّةً واحدة ولا يعودون أبدًا. "باي باي"، بابتسامة صفراء. "باي باي"، "فَك أف Fuck Off". الموسوعة الأقلّ دقّة من مهرج. الشعراء الأقلّ شعرًا من مخبر. الصحف الأقلّ صحافة من حصيرة. والمؤتمرات، المؤتمرات، المؤتمرات الأكثر يُتمًا من يتيم فقد والديه في غارة جوّيّة طازجة. فقد دموعه. فقد رعبه. نحن الآن.

أعود قليلًا، أتريّث كثيرًا من أجل الدقّة. محاولة أخيرة للفكاك من التعميم المحرج. لا فكاك. لا فكاك. وردة مفترسة تمدّ مجسّاتها المعدنيّة إلى القلب. القلب المتعب المريض الوحيد والأخير. ميشيل دبغي، بالمناسبة. شِعْب بوان، بالمناسبة. والأفّاق الّذي اسمه وصِفَته وطالعه أحمد بن الحسين المتنبّي. لُعْبة. ضربة العمر. تكسب أو تخسر. سيّان الترجمات والأصول، الصمت والكلام، الهيولى وبراميل النفط الخام. سيّان التعب جنونًا والجنون تعبًا. نحن الآن.

على مفترق الطرق تصهل الأفعى. يخرج الخيّالة من لوحات الزيت المغبرّة ويقفون طابورًا أمام فرقة الإعدام. يوزّع جنود الاحتلال حلوى على يتامانا ويطلقون نيرانهم الرشّاشة في الهواء المنعش لتجد الوقت الكافي للسقوط مرّة أخرى. مرّة في الفراش ومرّة على أحذية العسكر. نوزّع الحلوى على شهدائنا ونرقص في الأعراس حتّى ساعة متأخّرة من الليل. حتّى نعاس بنات آوى حتّى سقوا نجمة الحلم الأخيرة عن شجرة لم تُثمر من قبل ولم تُقطع من قبل، لأنّ البلطة معدّة للعنق وشهادة الماجستير مريضة بالدهشة المزمنة، والأطبّاء يتسكّعون على سطح المستشفى في المدينة الطبّيّة، الثكنة العسكريّة، البار، الكازينو، ويقول له: أمّي رأت أمّك هناك. فيقول له: وماذا كانت أمّك تفعل هناك؟ وتقول لك: سأقول للعالم إنّ أختك زانية واذهب أنت لتثبت للعالم أن لا أخت لك. ويقول له: نحن الآن في حضيض الحضيض يا بنيّ. نحن الآن في قرارة الهاوية. لن تدركنا يد امرئ القيس لأنّه مشغول بملك أبيه ابن الكلب الملتجئ إلى الروم هوذا يصبح نَسَقًا. يصبح أنموذجًا تاريخيًّا. شرعيّة غير شرعيّة. ويقول له: وماذا كانت أمّك تفعل هناك؟ نحن الآن.

لعلّه المرض. لعلّه الخوف على الأولاد. لعلّه المستقبل المصنوع من بلاستيك لا نصنعه. لا أصنعه أنا بالتأكيد. والأولاد، ماذا يفعلون؟ ماذا يستطيعون أن يفعلوا بما أورثهم من صيغ ضائعة في حلم ضائع في لغة ضائعة في وقت ضائع ضائع ضائع؟ خدعة الأمل هذه. العمر الّذي مَلّكني بدايته ولم تورثني نهايته. الأولاد السذّج الأبرياء. يلعبون بلا خرائط. لا يرون في الجرائد الملوّنة سوى طيّارات ورقيّة موعودة. الأرض الموعودة. أيّة كذبة؟ أيّ عبث؟ لا تضحك لا بنيّ. لا تضحك. نحن الآن.

كيف حدث ما يحدث؟ بأكواع متورّمة غيظًا، بأنابيب الإنفوزيا في غرف العلاج المكثّف، والانتظار في الممرّات المضاءة بالنيون المرعب. كيف حدث ما يحدث؟ لا أحد يذهب إلى شواطئ السباحة. لا استجمام للموتى. لا ضحك للمفلوجين. لا وقت للمراجعات. إصمت. تناول طعامك واشكُر. لا تتوقّع. لا تحسب. لا تستطرد. طرادات. حاملات طائرات. جلبة في ملاعب الغولف. يأتي الملك. يذهب الملك. ضحكات مقتضبة. غمزات ثريّة على المرجة الخضراء دائمًا قبالة البيت الأبيض. وهدوء على ملاعب الغولف. إنّها القيلولة المطمئنة، القيلولة المتخمة الصلفة ولا شيء سوى ذلك. نحن الآن.

أذكر أيضًا دوخة الخزي الدامي في المطارات. تلك الشبهة الوصمة. أذكر الاستهبال الواضح في سلوك البائع الصغير وخادم الفندق. أذكر الوحام الحيوانيّ لدى تلك السيّدة الدهشة: عربيّ وجنتلمان؟ أوه، فانتاستيك. وأذكر الغوري والسعدان، الطبلة والمزمار، ولم لا؟ لمَ لا تسير الأمور كما ينبغي أن تسير؟ لماذا يهدّد استقرار أغنيتي استقرار البورصة في نيويورك أو طوكير؟ لماذا؟ لماذا؟ ونحن الآن.

سيمشي كتّاب السِّيَر على الشوك. يقبض الشعراء جمر قصائدهم. بعض الخطباء ألسنتهم وحقائب السمسونايت الموصدة بحذر شديدة على هواء معقّم. من التربة تأتي الشجرة. من الشجرة يأتي ما يأتي، ثانويًّا، هامشيًّا، ومن حقيبة السمسونايت تأتي الخديعة الجوهريّة. هنا يكمن السرّ، هنا تبدأ المعضلة. تنقلع أكواز الرمّان عمّا أثمر من جهد، عن الأطفال الجدد في الظرف غير المناسب. وماذا يقول المخبر الصحفيّ؟ ماذا يستطيع أن يقول، ما دام هو الآخر لا يملك سهمًا في صناعة البلاستيك، في ورشة المستقبل.

ونحن الآن.

أمدّ يدي إلى ما مداها فترتجف، أمدّ قلمي إلى ورقته فيرتجف. أسأل قلبي ألّا يخذلني فيرتجف. تمشّط ريح الليل أشجار الحديقة فترتجف، هكذا تتّضح معاني الهزّات الأرضيّة لا في أرمينيا فحسب، ولا في إيران فحسب؛ بل في أصقاع الروح جميعًا وفي تضاريس الجسد مأخوذًا مملوكًا مستهلكًا. والصحراء الّتي أشتهي والّتي تجعل الملاذ ممكنًا تمّ تجعله مستحيلًا. ثمّ تنغلق على ذاتها داخل جسدها المباح المستباح، داخل امرئ القيس المتكرّر بملكه الضائع ورومِهِ القادمين كالجراد. نحن الآن.

من أغادير إلى قلبي مرورًا بالمُكلَّا

قلتُ كلّا.

ألف كلّا.

وإلى قلبي، من الموصل والشام

مرورًا بصفد،

بلد ينسى بلدْ،

قل هو الله أحدْ.

قل هو الله أحدْ.

ونحن الآن معي وبدوني. في سحابة القصدير، في وشم البدويّة الأخير. ثلاثاء تغادر أسبوعها. تفّاحة تتقمّص حجرًا. وردة منجّجة بمجسّاتها المعدنيّة السامّة. تحاصر وجعي. تحضّني على نسيان حبّها العالق في القلب مثل درّاجة هوائيّة في زحمة السير. ميادين مكتظّة بلا أحد. شوارع تحاذيها شوارع تحاذيها أرياف متراجعة أمام التصحّر والغزو الأجنبيّ. ونحن الآن.

بين لحمي المُقيمِ على صلوات مرارته الجارِحةْ

ورحيلِ دَمي

آخ، كم تشبه الليلة البارحةْ.

بينَ صوتي وبينَ فَمي

لغةٌ واضحةْ.

آن لي

آن أن أقرأ الفاتحةْ...

ونحن الآن. توقيت محلّيّ على ساعات الوطن الخَرِبَة. ساعات على الوطن الخَرِبْ. خراب على الساعات والوطن. وطن بلا ساعات وبلا وطن. جماهير تزدَرِدُ الخراب. الخبز. الخبّيزة. الخُبْث. الخطيئة. الخطر. الخِصْيان. العِصْب بلا ثمر. ثمر بلا طعم. ثمر من بلاستيك لم نصنعه نحن. وبالتأكيد لم أصنعه أنا. وأسئلة أخرى لا تنتظر جوابًا.

ماذا؟ كيف؟ لماذا؟ متى؟ مَنْ؟ هل؟ أَ؟ هَبْ؟ أَفَ؟ أسَ؟ أسئلة بلا إجابات. إجابات بلا أسئلة. توقيت محلّيّ خَرِبْ .موازاة تامّة وبلا مكان على الإطلاق.

ونحن الآن.

لن تُحاول الأرض أن تنشقّ لتبتلعني؛ فلأُحاول إذنْ أن أنشقّ لأبتلع الأرض، أنا الآن.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.